الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **
وروى الحاكم في " الأربعين " بسند صحيح عن أنس نحو حديث إسحاق المذكور ونحوه لأبي نعيم في " مستخرج مسلم "، قال الحافظ في " بلوغ المرام " بعد أن ساق حديث أنس المتفق عليه ما نصه: وفي رواية للحاكم في " الأربعين " بإسناد صحيح " صلى الظهر والعصر ثم ركب "، ولأبي نعيم في مستخرج مسلم: " كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل ". وقال ابن حجر في " تلخيص الحبير " بعد أن ساق حديث الحاكم المذكور بسنده ومتنه ما نصه: وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي، وتعجّب من كون الحاكم لم يورده في " المستدرك "، قال: وله طريق أخرى رواها الطبراني في " الأوسط "، ثم ساق الحديث بها وقال: تفرد به يعقوب بن محمد ولا يقدح في رواية الحاكم هذه ما ذكره ابن حجر في " الفتح " من أن البيهقي ساق سند الحاكم المذكور ثم ذكر المتن ولم يذكر فيه زيادة جمع التقديم لما قدمنا من أن من حفظ حجة على من لم يحفظ وزيادة العدول مقبولة كما تقدم. وقال النووي في " شرح المهذب " بعد أن ساق حديث معاذ الذي نحن بصدده ما نصه: رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن. وقال البيهقي: هو محفوظ صحيح، وعن أنس قال: " كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فزالت الشمس صلّى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل "، رواه الإسماعيلي والبيهقي بإسناد صحيح. قال إمام الحرمين في " الأساليب ": في ثبوت الجمع أخبار صحيحة هي نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله في المعنى الاستنباط من صورة الإجماع وهي الجمع بعرفات ومزدلفة، إذ لا يخفى أن سببه احتياج الحجاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار. انتهى محل الغرض منه بلفظه. والجواب عن قول أبي داود ليس في جمع التقديم حديث قائم هو ما رأيت من أنه ثبت في " صحيح مسلم " من حديث جابر وصح من حديث أنس من طريق إسحاق بن راهويه وأخرجه الحاكم بسند صحيح في " الأربعين " وأخرجه أبو نعيم في " مستخرج مسلم " والإسماعيلي والبيهقي وقال: إسناده صحيح بلفظ: " كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر وزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا " إلى آخر ما تقدم. قال الشوكاني في " نيل الأوطار ": قد عرفت أن أحاديث جمع التقديم بعضها صحيح وبعضها حسن، وذلك يرد قول أبي داود ليس في جمع التقديم حديث قائم، والجواب عن تضعيف حديث ابن عباس المتقدم في جمع التقديم بأن في إسناده حسين بن عبد اللَّه بن عبيداللَّه بن عباس بن عبد المطّلب هو ضعيف، هو أنه روي من طريقين أخريين بهما يعتضد الحديث حتى يصير أقل درجاته الحسن. الأولى: أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس. والثانية: منهما رواها إسماعيل القاضي في الأحكام عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن كريب، عن ابن عباس بنحوه قاله ابن حجر في " التلخيص " والشوكاني في " نيل الأوطار ". وقال ابن حجر في " التلخيص " أيضًا: يقال إن الترمذي حسنه وكأنه باعتبار المتابعة، وغفل ابن العربي فصحح إسناده. وبهذا كلّه تعلم أن كلاًّ من جمع التقديم وجمع التأخير في السفر ثابت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفيه صورة مجمع عليها وهي التي رواها مسلم عن جابر في حديثه الطويل في الحجّ كما قدمنا، وهي جمع التقديم ظهر عرفات، وجمع التأخير عشاء المزدلفة. قال البيهقي في " السنن الكبرى ": والجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين رضي اللَّه عنهم أجمعين، مع الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم عن أصحابه ثم ما أجمع عليه المسلمون من جمع الناس بعرفات ثم بالمزدلفة. اهـ. منه بلفظه. وروى البيهقي في " السنن الكبرى " أيضًا عن الزهري أنه سأل سالم بن عبد اللَّه: هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر ؟ فقال: نعم لا بأس بذلك، ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة. اهـ. منه بلفظه. وقال ابن القيم في " زاد المعاد ": قال ابن تيمية ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر لمصلحة الوقوف ليتصل وقت لدعاء ولا يقطعه بالنزول لصلاة العصر مع إمكان ذلك بلا مشقة، فالجمع كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى. قال الشافعي: وكان أرفق به يوم عرفة تقديم العصر؛ لأن يتصل له الدعاء فلا يقطعه بصلاة العصر، والتأخير أرفق بالمزدلفة؛ لأن يتصل له المسير ولا يقطعه للنزول للمغرب لما في ذلك من التضييق على الناس. اهـ. من " زاد المعاد ". فبهذه الأدلة التي سقناها في هذا المبحث تعلم أن العصر مشتركة مع الظهر في وقتها عند الضرورة، وأن العشاء مشتركة مع المغرب في وقتها عند الضرورة أيضًا، وأن الظهر مشتركة مع العصر في وقتها عند الضرورة، وأن المغرب مشتركة مع العشاء في وقتها عند الضرورة أيضًا، ولا يخفى أن الأئمة الذين خالفوا مالكًا رحمه اللَّه تعالى في امتداد وقت الضرورة للظهر إلى الغروب وامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى الفجر كالشافعي وأحمد رحمهما اللَّه ومن وافقهما أنهم في الحقيقة موافقون له لاعترافهم بأن الحائض إذا طهرت قبل الغروب بركعة صلت الظهر والعصر معًا، وكذلك إذا طهرت قبل طلوع الفجر بركعة صلت المغرب والعشاء كما قدمنا عن ابن عباس وعبد الرحمان بن عوف، فلو كان الوقت خرج بالكلية لم يلزمها أن تصلّي الظهر ولا المغرب للإجماع على أن الحائض لا تقضي ما فات وقته من الصلوات وهي حائض. وقال النووي في " شرح المهذب ": قد ذكرنا أن الصحيح عندنا أنه يجب على المعذور الظهر بما تجب به العصر، وبه قال عبد الرحمان بن عوف وابن عباس وفقهاء المدينة السبعة وأحمد وغيرهم. وقال الحسن وحماد وقتادة والثوري وأبو حنيفة ومالك وداود: لا تجب عليه. اهـ. منه بلفظه، ومالك يوجبها بقدر ما تصلّى فيه الأولى من مشتركتي الوقت مع بقاء ركعة فهو أربع في المغرب والعشاء وخمس في الظهر والعصر للحاضر، وثلاث للمسافر. وقال ابن قدامة في " المغني ": وروي هذا القول يعني إدراك الظهر مثلاً بما تدرك به العصر في الحائض تطهر، عن عبد الرحمان بن عوف وابن عباس وطاوس ومجاهد والنخعي والزهري وربيعة ومالك والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور. قال الإمام أحمد: عامّة التابعين يقولون بهذا القول إلا الحسن وحده، قال: لا تجب إلا الصلاة التي طهرت في وقتها وحدها، إلى أن قال: ولنا ما روى الأثرم وابن المنذر وغيرهما بإسنادهم عن عبد الرحمان بن عوف وعبد اللَّه بن عباس أنهما قالا في الحائض: تطهر قبل طلوع الفجر بركعة تصلي المغرب والعشاء، فإذا طهرت قبل أن تغرب الشمس صلّت الظهر والعصر جميعًا؛ ولأن وقت الثانية وقت الأولى حال العذر فإذا أدركه المعذور لزمه فرضها كما يلزمه فرض الثانية. اهـ. منه بلفظه مع حذف يسير، وهو تصريح من هذا العالم الجليل الحنبلي بامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى الفجر، وللظهر إلى الغروب كقول مالك رحمه اللَّه تعالى وأما أول وقت العشاء فقد أجمع المسلمون على أنه يدخل حين يغيب الشفق. وفي حديث جابر وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل في بيان أول وقت العشاء ثم صلى العشاء حين غاب الشفق. وفي حديث بريدة المتقدم عند مسلم وغيره ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق. وفي حديث أبي موسى عند مسلم وغيره: ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدًا وهو أمر لا نزاع فيه. فإذا علمت إجماع العلماء على أن أول وقت العشاء هو مغيب الشفق، فاعلم أن العلماء اختلفوا في الشفق، فقال بعض العلماء: هو الحمرة، وهو الحق. وقال بعضهم: هو البياض الذي بعد الحمرة، ومما يدلّ على أن الشفق هو الحمرة ما رواه الدارقطني عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة ". قال الدارقطني في " الغرائب ": هو غريب وكل رواته ثقات، وقد أخرج ابن خزيمة في " صحيحه " عن عبد اللَّه بن عمر مرفوعًا، " ووقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق " الحديث. قال ابن خزيمة: إن صحت هذه اللفظة أغنت عن غيرها من الروايات، لكن تفرد بها محمد بن يزيد. قال ابن حجر في " التلخيص ": محمد بن يزيد هو الواسطي وهو صدوق، وروى هذ الحديث ابن عساكر وصحح البيهقي وقفه على ابن عمر. وقال الحاكم أيضًا: إن رفعه غلط، بل قال البيهقي: روي هذا الحديث عن عمر وعلي وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس، ولا يصح فيه شىء ولكن قد علمت أن الإسناد الذي رواه ابن خزيمة به في " صحيحه " ليس فيه مما يوجب تضعيفه إلا محمد بن يزيد، وقد علمت أنه صدوق، ومما يدل على أن الحمرة الشفق ما رواه البيهقي في " سننه " عن النعمان بن بشير. قال: أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء " كان صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة " لما حققه غير واحد من أن البياض لا يغيب إلا بعد ثلث الليل وسقوط القمر لثالثة الشهر قبل ذلك كما هو معلوم. وقال الشوكاني في " نيل الأوطار ": ومن حجج القائلين بأن الشفق الحمرة ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: " أنه صلى العشاء لسقوط القمر لثالثة الشهر "، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي. قال ابن العربي: وهو صحيح وصلى قبل غيبوبة الشفق. قال ابن سيّد الناس في " شرح الترمذي ": وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول، وهو الذي حد صلى الله عليه وسلم خروج أكثر الوقت به فصح يقينًا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين، فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذي هو البياض فتبين بذك يقينًا أن الوقت دخل يقينًا بالشفق الذي هو الحمرة. اهـ. وابتداء وقت العشاء مغيب الشفق إجماعًا لما تقدم في حديث جبريل وحديث التعليم، وهذا الحديث وغير ذلك انتهى منه بلفظه، وهو دليل واضح على أن الشفق الحمرة لا البياض، وفي " القاموس " الشفق الحمرة ولم يذكر البياض. وقال الخليل والفراء وغيرهما من أئمة اللغة: الشفق الحمرة وما روي عن الإمام أحمد رحمه اللَّه من أن الشفق في السفر هو الحمرة وفي الحضر هو البياض الذي بعد الحمرة لا يخالف ما ذكرنا؛ لأنه من تحقيق المناط لغيبوبة الحمرة التي هي الشفق عند أحمد وإيضاحه أن الإمام أحمد رحمه اللَّه يقول: " الشفق هو الحمرة" والمسافر؛ لأنه في الفلاة والمكان المتسع يعلم سقوط الحمرة، أما الذي في الحضر فالأفق يستتر عنه بالجدران فيستظهر حتى يغيب البياض ليستدل بغيبوبته على مغيب الحمرة، فاعتباره لغيبة البياض لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه. اهـ. من " المغني " لابن قدامة. وقال أبو حنيفة رحمه اللَّه ومن وافقه: الشفق البياض الذي بعد الحمرة، وقد علمت أن التحقيق أنه الحمرة، وأما آخر وقت العشاء فقد جاء في بعض الروايات الصحيحة انتهاؤه عند ثلث الليل الأول، وفي بعض الروايات الصحيحة نصف الليل، وفي بعض الروايات الصحيحة ما يدل على امتداده إلى طلوع الفجر. فمن الروايات بانتهائه إلى ثلث الليل، ما أخرجه البخاري في " صحيحه " عن عائشة رضي اللَّه عنها: " كانوا يصلون العشاء فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول ". وفي حديث أبي موسى، وبريدة المتقدمين في تعليم من سأل عن مواقيت الصلاة عند مسلم وغيره: " أنه صلى الله عليه وسلم في الليلة الأولى أقام العشاء حين غاب الشفق، وفي الليلة الثانية أخّره حتى كان ثلث الليل الأول، ثم قال: الوقت فيما بين هذين ". وفي حديث جابر، وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل: " أنه في الليلة الأولى صلى العشاء حين مغيب الشفق، وفي الليلة الثانية صلاّها حين ذهب ثلث الليل الأول وقال: الوقت فيمابين هذين الوقتين "، إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على انتهاء وقت العشاء عند ذهاب ثلث الليل الأول. ومن الروايات الدالّة على امتداده إلى نصف الليل، ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أنس رضي اللَّه عنه قال: " أخّر النبيّ صلى الله عليه وسلم العشاء إلى نصف الليل، ثم صلّى، ثم قال: قد صلّى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها ". قال أنس: كأني أنظر إلى وبيض خاتمه لَيْلَتَئِذٍ. وفي حديث عبد اللَّه بن عمر والمتقدم عند أحمد، ومسلم، والنسائي، وأبي داود: " ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل " وفي بعض رواياته: " فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل ". ومن الروايات الدالّة على امتداده إلى طلوع الفجر ما رواه أبو قتادة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث طويل قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلّ الصلاة حتى يجىء وقت الأخرى "، رواه مسلم في " صحيحه ". واعلم أن عموم هذا الحديث مخصوص بإجماع المسلمين على أن وقت الصبح لا يمتدّ بعد طلوع الشمس إلى صلاة الظهر، فلا وقت للصبح بعد طلوع الشمس إجماعًا، فإن قيل يمكن تخصيص حديث أبي قتادة هذا بالأحاديث الدالّة على انتهاء وقت العشاء إلى نصف الليل. فالجواب: أن الجمع ممكن، وهو واجب إذا أمكن وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ووجه الجمع أن التحديد بنصف الليل للوقت الاختياري والامتداد إلى الفجر للوقت الضروري. ويدل لهذا: إطباق من ذكرنا سابقًا من العلماء على أن الحائض إذا طهرت قبل الصبح بركعة صلت المغرب، والعشاء، ومن خالف من العلماء فيما ذكرنا سابقًا، إنما خالف في المغرب لا في العشاء، مع أن الأثر الذي قدمنا في ذلك عن عبد الرحمان بن عوف، وابن عباس لا يبعد أن يكون في حكم المرفوع؛ لأن الموقوف الذي لا مجال للرأي فيه له حكم الرفع، كما تقرر في علوم الحديث، ومعلوم أن انتهاء أوقات العبادات كابتدائها لا مجال للرأي فيه؛ لأنه تعبدي محض. وبهذا تعرف وجه الجمع بين ما دل على انتهائه بنصف الليل، وما دلّ على امتداده إلى الفجر، ولكن يبقى الإشكال بين روايات الثلث وروايات النصف، والظاهر في الجمع واللَّه تعالى أعلم أنه جعل كل ما بين الثلث والنصف وهو السدس ظرفًا لآخر وقت العشاء الاختياري. وإذن فلآخره أول وآخر وإليه ذهب ابن سريج من الشافعية، وعلى أن الجمع بهذا الوجه ليس بمقنع فليس هناك طريق إلا الترجيح بين الروايات. فبعض العلماء رجح روايات الثلث بأنها أحوط في المحافظة على الوقت المختار وبأنها محل وفاق لاتفاق الروايات على أن من صلّى العشاء قبل الثلث فهو مؤد صلاته في وقتها الاختياري، وبعضهم رجح روايات النصف بأنها زيادة صحيحة، وزيادة العدل مقبولة. وأما أول وقت صلاة الصبح فهو عند طلوع الفجر الصادق بإجماع المسلمين وهو الفجر الذي يحرم الطعام والشراب على الصائم. وفي حديث أبي موسى، وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره: " وأمر بلالاً فأقام الفجر حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا " الحديث. وفي حديث جابر المتقدم، في إمامة جبريل أيضًا: " ثم صلّى الفجر حين برق الفجر، وحرم الطعام على الصائم "، ومعلوم أن الفجر فجران كاذب وصادق، فالكاذب لا يحرم الطعام على الصائم، ولا تجوز به صلاة الصبح والصادق بخلاف ذلك فيهما، وأما آخر وقت صلاة الصبح فقد جاء في بعض الروايات تحديده بالإسفار، وجاء في بعضها امتداده إلى طلوع الشمس، فمن الروايات الدالّة على انتهائه بالإسفار ما في حديث جابر المذكور آنفًا: " ثم جاءه حين أسفر جدًا فقال: قم فصله فصلّى الفجر ". وفي حديث ابن عباس المتقدم آنفًا: " ثم صلّى الصبح حين أسفرت الأرض " الحديث. وهذا في بيانه لآخر وقت الصبح المختار في اليوم الثاني. وفي حديث أبي موسى وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره: " ثم أخّر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول: طلعت الشمس أو كادت ". ومن الروايات الدالّة على امتداده إلى طلوع الشمس ما أخرجه مسلم في " صحيحه " وغيره من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما: " ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس ". وفي رواية لمسلم: " ووقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول "، والظاهر في وجه الجمع بين هذه الروايات أن الوقت المنتهي إلى الإسفار هو وقت الصبح الاختياري، والممتد إلى طلوع الشمس وقتها الضروري، وهذا هو مشهور مذهب مالك. وقال بعض المالكية: لا ضروري للصبح فوقتها كله إلى طلوع الشمس وقت اختيار، وعليه فوجه الجمع هو ما قدمنا عن ابن سريج في الكلام على آخر وقت العشاء، والعلم عند اللَّه تعالى. فهذا الذي ذكرنا هو تفصيل الأوقات الذي أجمل في قوله تعالى: نهى اللَّه تعالى المسلمين في هذه الآية الكريمة عن الوهن، وهو الضعف في طلب أعدائهم الكافرين، وأخبرهم بأنهم إن كانوا يجدون الألم من القتل والجراح فالكفار كذلك، والمسلم يرجو من اللَّه من الثواب والرحمة ما لا يرجوه الكافر، فهو أحق بالصبر على الآلام منه، وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله: . وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىا نَفْسِهِ ذكر في هذه الآية أن من فعل ذنبًا فإنه إنما يضر به خصوص نفسه لا غيرها، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: ، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ذكر في هذه الآية الكريمة أنه علّم نبيّه صلى الله عليه وسلم ما لم يكن يعلمه، وبيّن في مواضع أُخر أنه علّمه ذلك عن طريق هذا القرءان العظيم الذي أنزله عليه، كقوله: ، لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرًا من مناجاة الناس فيما بينهم لا خير فيه. وقوله في هذه الآية الكريمة: ولكنه أشار في مواضع أُخر أن المراد بالناس المرغب في الإصلاح بينهم هنا المسلمون خاصة كقوله تعالى: وقال بعض العلماء: إن الأمر بالمعروف المذكور في هذه الآية في قوله: ، وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـاناً مَّرِيداً المراد في هذه الآية بدعائهم الشيطان المريد عبادتهم له، ونظيره قوله تعالى: ، وَقَالَ لاّتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً بيّن هنا فيما ذكر عن الشيطان كيفية اتخاذه لهذا النصيب المفروض، بقوله:
أي: قطع، كما بيّن كيفية اتخاذه لهذا النصيب المفروض في آيات أُخر كقوله: له، وهي قوله: . وَلاّمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ قال بعض العلماء: معنى هذه الآية أن الشيطان يأمرهم بالكفر وتغيير فطرة الإسلام التي خلقهم اللَّه عليها، وهذا القول يبيّنه ويشهد له قوله تعالى: وأما على القول بأن المراد في الآية بتغيير خلق اللَّه خصاء الدواب، والقول بأن المراد به الوشم، فلا بيان في الآية المذكورة، وبكل من الأقوال المذكورة. قال جماعة من العلماء: وتفسير بعض العلماء لهذه الآية بأن المراد بها خصاء الدواب يدل على عدم جوازه؛ لأنه مسوق في معرض الذم واتباع تشريع الشيطان، أما خصاء بني ءادم فهو حرام إجماعًا؛ لأنه مثلة وتعذيب وقطع عضو، وقطع نسل من غير موجب شرعي، ولا يخفى أن ذلك حرام. وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت به المنفعة إما لسمن أو غيره، وجمهور العلماء على أنه لا بأس أن يضحى بالخصي، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره، ورخّص في خصاء الخيل عمر بن عبد العزيز، وخصى عروة بن الزبير بغلاً له، ورخّص مالك في خصاء ذكور الغنم، وإنما جاز ذلك؛ لأنه لا يقصد به التقرب إلى غير اللَّه، وإنما يقصد به تطييب لحم ما يؤكل وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى، ومنهم من كره ذلك لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون ". قاله القرطبي، واختاره ابن المنذر قال: لأن ذلك ثابت عن ابن عمر وكان يقول هو: نماء خلق اللَّه، وكره ذلك عبد الملك بن مروان. وقال الأوزاعي: كانوا يكرهون خصاء كل شىء له نسل. وقال ابن المنذر: وفيه حديثان: أحدهما: عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم " نهى عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل ". والآخر: حديث ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم " نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم "، والذي في " الموطأ " من هذا الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء، ويقول: فيه تمام الخلق. قال أبو عمر، يعني في ترك الإخصاء: تمام الخلق، وروي نماء الخلق. قال القرطبي: بعد أن ساق هذا الكلام الذي ذكرنا قلت: أسند أبو محمد عبد الغني من حديث عمر بن إسماعيل، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تخصوا ما ينمي خلق اللَّه "، رواه عن الدارقطني شيخه قال: حدثنا عباس بن محمد، حدثنا قراد، حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل فذكره. قال الدارقطني: ورواه عبد الصمد بن النعمان عن أبي مالك.اهـ. من القرطبي بلفظه، وكذلك على القول بأن المراد بتغيير خلق اللَّه الوشم، فهو يدلّ أيضًا على أن الوشم حرام. وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أنه قال: لعن اللَّه الواشمات والمستوشمات والنامصات والمنتمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق اللَّه عزّ وجلّ، ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب اللَّه عزّ وجلّ، يعني قوله تعالى: وقالت طائفة من العلماء: المراد بتغيير خلق اللَّه في هذه الآية هو أن اللَّه تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات للاعتبار وللانتفاع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة.
وقال الزجاج: إن اللَّه تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل، فحرموها على أنفسهم وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس، فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق اللَّه. وما روى عن طاوس رحمه اللَّه من أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود، ويقول: هذا من قول اللَّه تعالى: قال مقيده عفا اللَّه عنه: ويشبه قول طاوس هذا في هذه الآية ما قال بعض علماء المالكية من أن السوداء تزوج بولاية المسلمين العامة بناء على أن مالكًا يجيز تزويج الدنية بولاية عامة مسلم إن لم يكن لها وليّ خاص مجبر. قالوا: والسوداء دنية مطلقًا؛ لأن السواد شوه في الخلقة وهذا القول مردود عند المحققين من العلماء، والحق أن السوداء قد تكون شريفة، وقد تكون جميلة، وقد قال بعض الأدباء: وسوداء الأديم تريك وجهًا ترى ماء النعيم جرى عليه رآها ناظري فرنا إليها وشكل الشىء منجذب إليه
وقال آخر: ولي حبشية سلبت فؤادي ونفسي لا تتوق إلى سواها كأن شروطها طرق ثلاث تسير بها النفوس إلى هواها
وقال آخر في سوداء: أشبهك المسك وأشبهته قائمة في لونه قاعدة لا شك إذ لونكما واحد أنكما من طينة واحدة
وأمثاله في كلام الأدباء كثيرة. وقوله: قال مالك: والليث المقطوعة الأذن لا تجزىء، أو جلّ الأذن قاله القرطبي، والمعروف من مشهور مذهب مالك أن الذي يمنع الإجزاء قطع ثلث الأذن فما فوقه لا ما دونه فلا يضر، وإن كانت سكاء وهي التي خلقت بلا أذن. فقال مالك، والشافعي: لا تجزىء، وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك، وإن كانت مشقوقة الأذن للميسم أجزأت عند الشافعي، وجماعة الفقهاء، قاله القرطبي في تفسير هذه الآية، والعلم عند اللَّه تعالى. ، لَّيْسَ بِأَمَـانِيِّكُمْ وَلاا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَـابِ لم يبيّن هنا شيئًا من أمانيهم، ولا من أماني أهل الكتاب، ولكنّه أشار إلى بعض ذلك في مواضع أُخر كقوله في أماني العرب الكاذبة: وما ذكره بعض العلماء من أن سبب نزول الآية أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا، فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيّكم، وكتابنا قبل كتابكم، فنحن أولى باللَّه منكم، وقال المسلمون: نحن أولى باللَّه منكم، ونبيّنا خاتم النبيّين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فأنزل اللَّه: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ}، لا ينافي ما ذكرنا؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا أحد أحسن دينًا ممن أسلم وجهه للَّه في حال كونه محسنًا؛ لأن استفهام الإنكار مضمن معنى النفي، وصرّح في موضع آخر أن من كان كذلك فقد استمسك بالعروة الوثقى، وهو قوله تعالى: وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبًا زلالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرًا ثقالا
، وَمَا يُتْلَىا عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـابِ فِى يَتَـامَى النِّسَآءِ لم يبيّن هنا هذا الذي يتلىا عليهم في الكتاب ما هو، ولكنّه بيّنه في أول السورة وهو قوله تعالى: وقال بعض العلماء: الحرف المحذوف هو "في" أي: ترغبون في نكاحهن إن كن متصفات بالجمال وكثرة المال مع أنكم لا تقسطون فيهن، والذين قالوا بالمجاز واختلفوا في جواز محل اللفظ على حقيقته ومجازه معًا أجازوا ذلك في المجاز العقلي كقولك: أغناني زيد وعطاؤه، فإسناد الإغناء إلى زيد حقيقة عقلية، وإسناده إلى العطاء مجاز عقلي فجاز جمعها، وكذلك إسناد الإفتاء إلى اللَّه حقيقي، وإسناده إلى ما يتلى مجاز عقلي عندهم لأنه سببه فيجوز جمعهما. وقال بعض العلماء: إن قوله: الأول: أن الغالب أن اللَّه يفتي بما يتلى في هذا الكتاب، ولا يفتي فيه لظهور أمره. الثاني: أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ضعفه غير واحد من علماء العربية، وأجازه ابن مالك مستدلاً بقراءة حمزة، {والأرحام} بالخفض عطفًا على الضمير من قوله: {تَسَاءلُونَ بِهِ}، وبوروده في الشعر كقوله: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
بجر الأيام عطفًا على الكاف ونظيره قول الآخر: نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانف
بجر الكعب معطوفًا على الضمير قبله وقول الآخر: وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعدًا فيها ولا الأرض مقعدا
فقوله: ولا الأرض بالجر معطوفًا على الضمير وقول الآخر: أمر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها
فسواها في محل جر بالعطف على الضمير. وأجيب عن الآية بجواز كونها قسمًا، واللَّه تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه، كما أقسم بمخلوقاته كلها في قوله تعالى:
بنصب الضحاك كما ذكرنا، وجعل بعض العلماء منه قوله تعالى: وقال بعض العلماء: إن المراد بقوله: وعلى هذا القول، فالمبين لقوله: تنبيــه المصدر المنسبك من "أن" وصلتها في قوله: وقال الأخفش: هو في محل جر بالحرف المحذوف بدليل قول الشاعر: وما زرت ليلى أن تكون حبيبة إليّ ولا دينٍ بها أنا طالبه
بجر "دين" عطفًا على محل "أن تكون" أي: لكونها حبيبة ولا لدين، وردّ أهل القول الأول الاحتجاج بالبيت بأنه من عطف التوهم، كقول زهير: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابقٍ شيئًا إذا كان جائيا
بجر "سابق" لتوهم دخول الباء على المعطوف عليه الذي هو خبر ليس، وقول الآخر: مشائم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها
واعلم أن حرف الجر لا يطرد حذفه إلا في المصدر المنسبك من، "أن"،بجر "ناعب" لتوهم الباء وأجاز سيبويه الوجهين. وصلتهما عند الجمهور خلافًا لعلي بن سليمان الأخفش القائل بأنه مطرد في كل شىء عند أمن اللبس، وعقده ابن مالك في "الكافية" بقوله: وابن سليمان اطراده رأى إن لم يخف لبس كمن زيد نأى
وإذا حذف حرف الجر مع غير "أن"، وأن نقلاً على مذهب الجمهور، وقياسًا عند أمن اللبس في قول الأخفش فالنصب متعين، والناصب عند البصريين الفعل، وعند الكوفيين نزع الخافض كقوله: تمرون الديار ولن تعوجوا كلامكم عليّ إذن حرام
وبقاؤه مجرورًا مع حذف الحرف شاذ، كقول الفرزدق: إذا قيل أي الناس شر قبيلة أشارت كليب بالأكف الأصابع
أي: أشارت الأصابع بالأكف، أي: مع الأكف إلى كليب. وقوله تعالى: ، وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأنفس أحضرت الشح، أي: جعل شيئًا حاضرًا لها كأنه ملازم لها لا يفارقها؛ لأنها جبلت عليه. وأشار في موضع آخر أنه لا يفلح أحدًا إلا إذا وقاه اللَّه شح نفسه وهو قوله تعالى: ، وَلَن تَسْتَطِيعُوااْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ هذا العدل الذي ذكر تعالى هنا أنه لا يستطاع هو العدل في المحبة، والميل الطبيعي؛ لأنه ليس تحت قدرة البشر بخلاف العدل في الحقوق الشرعية فإنه مستطاع، وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله:
أي: غير مائل ولا جائر، ومنه قول الآخر: قالوا تبعنا رسول اللَّه واطرحوا قول الرسول وعالوا في الموازين
أي: جاروا، وقول الآخر: ثلاثة أنفس وثلاث ذود لقد عال الزمان على عيالي
أي: جار ومال، أما قول أحيحة بن الجلاح الأنصاريّ: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
وقول جرير: اللَّه نزل في الكتاب فريضة لابن السبيل وللفقير العائل
وقوله تعالى: وقال الشافعي رحمه اللَّه: معنى قوله: {أَلاَّ تَعُولُواْ}، أي: يكثر عيالكم من عال الرجل يعول إذا كثر عياله، وقول بعضهم: إنّ هذا لا يصح وإنّ المسموع أعال الرجل بصيغة الرباعي على وزن أفعل، فهو معيل إذا كثر عياله فلا وجه له؛ لأنّ الشافعي من أدرى الناس باللغة العربية، ولأنّ عال بمعنى كثر عياله لغة حمير، ومنه قول الشاعر: وأن الموت يأخذ كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا
يعني: وإن كثرت ماشيته وعياله، وقرأ الآية طلحة بن مصرف {إِلا} وا بضم التاء من أعال إذا كثر عياله على اللغة المشهورة. ، وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ ذكر في هذه الآية الكريمة أن الزوجين إن افترقا أغنى اللَّه كل واحد منهما من سعته وفضله الواسع، وربط بين الأمرين بأن جعل أحدهما شرطا والآخر جزاء. وقد ذكر أيضًا أن النكاح سبب للغنى، بقوله: ، إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِـاخَرِينَ ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه إن شاء أذهب الناس الموجودين وقت نزولها، وأتي بغيرهم بدلاً منهم، وأقام الدليل على ذلك في موضع آخر، وذلك الدليل هو أنه أذهب من كان قبلهم وجاء بهم بدلاً منهم، وهو قوله تعالى: وذكر في موضع آخر أنهم إن تولوا أبدل غيرهم وأن أولئك المبدلين لا يكونون مثل المبدل منهم بل يكونون خيرًا منهم، وهو قوله تعالى: وذكر في موضع آخر أن ذلك هين عليه غير صعب، وهو قوله تعالى: ، أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً ذكر في هذه الآية الكريمة أن جميع العزة له جلّ وعلا. وبيّن في موضع آخر أن العزة التي هي له وحده أعزّ بها رسوله، والمؤمنين، وهو قوله تعالى:
، وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَـافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً في معنى هذه الآية أوجه للعلماء: منها: أن المعنى ولن يجعل اللَّه للكافرين على المؤمنين يوم القيامة سبيلاً، وهذا مروي عن علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي اللَّه عنهم ويشهد له قوله في أول الآية: ومنها: أن المراد بأنه لا يجعل لهم على المؤمنين سبيلاً، يمحوا به دولة المسلمين ويستأصلهم ويستبيح بيضتهم، كما ثبت في "صحيح مسلم" وغيره عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان، أنه قال: " وإني سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة بعامة وألا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن اللَّه قد أعطاني لأمتي ذلك حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا "، ويدلّ لهذا الوجه آيات كثيرة كقوله: ومنها: أن المعنى أنه لا يجعل لهم عليهم سبيلاً إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر، ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو عليهم من قبلهم، كما قال تعالى:
|